فصل: مسألة الدخول على المعذبين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة الاعتكاف في رمضان وتحري ليلة القدر:

في الاعتكاف في رمضان وتحري ليلة القدر وعنه أيضا عن نافع بن أبي نعيم عن محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي سعيد الخدري قال: «اعتكف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العشر الوسط من رمضان فلما كانت ليلة إحدى وعشرين قال: من اعتكف معي فليعتكف هذه العشر الأواخر فإني رأيت ليلة القدر فأنسيتها ورأيتني أسجد في صبيحتها في ماء وطين».
قال محمد بن رشد: وقع في حديث أبي سعيد هذا في الموطأ «كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعتكف في العشر الوسط من رمضان».
وقوله كان يعتكف يدل على أن ذلك كان فعله الذي يواظب عليه، وفي ذلك دليل على أن ليلة القدر قد يكون فيها وفيه زيادة أيضا، «قال أبو سعيد: فأبصرت عيناي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى جبينه أثر الماء والطين من صبح ليلة القدر ليلة أحد وعشرين من رمضان» فتبين من هذا أن ليلة القدر ليلة إحدى وعشرين من رمضان وفي «أمر النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ لعبد الله بن أنيس الجهني أن ينزل ليلة ثلاث وعشرين من رمضان» على ما وقع من ذلك في الموطأ دليل على أن ليلة القدر ليلة ثلاث وعشرين من رمضان، فمن الناس من ذهب إلى أن ليلة القدر لا تنتقل، فحمل ذلك على التعارض وصحح أحد الحديثين ورآه أولى من الآخر، ومنهم من ذهب إلى أنها تنتقل فقال: كانت في العام الواحد ليلة إحدى وعشرين، وفي العام الثاني آخر ليلة ثلاث وعشرين، وفي عام آخر ليلة سبع وعشرين، على حديث أبي بن كعب ومعاوية وهو الصحيح في النظر؛ لأنها كلها أحاديث صحاح فلا يصح أن يحمل التعارض والجمع بينها بالتأويل محتمل ظاهر بين، والله الموفق.

.مسألة قضاء الحاج بالليل ما فاته بالنهار:

في قضاء الحاج بالليل ما فاته بالنهار قال مالك: بلغني أن ابن عمر أمر بعض أهله أن يقضوا ما فاتهم بالنهار بالليل ولم يبلغني أن يهرقوا دما.
قال محمد بن رشد: بعض أهله الذين أمرهم أن يقضوا ما فاتهم بالليل هما صفية بنت أبي عبيد زوجته وبنت أخ لها والتي فاتها رمي جمرة العقبة، يبين هذا الحديث الموطأ رواه مالك عن أبي بكر بن نافع عن أبيه أن بنت أخ لصفية بنت عبيد نفست فتخلفت هي وصفية حتى أتتا منى بعد أن غربت الشمس من يوم النحر، فأمرهما عبد الله بن عمر أن يرميا الجمرة حين أتتا، ولم ير عليهما شيئا، وهو ظاهر قول مالك في الموطأ، واختلف قوله في ذلك في المدونة، فمرة قال في ذلك بالدم، ومرة لم يقل فيه دما وكذلك من ترك رمي جمرة من الجمار الثلاث حتى غربت الشمس اختلف قول مالك في وجوب الدم عليه، مرة رآه عليه ومرة لم يره.
وأما من ترك رمي جمرة من الجمار حتى ذهبت أيام منى وفات الرمي فلم يختلف قوله في وجوب الدم، واستحب لمن ترك جمرة العقبة أو رمي يوم من أيام أن يهدي بدنة، فإن ترك جمرتين من يوم من أيام منى فليهد بقرة، وإن لم يترك إلا جمرة واحدة فشاة، والشاة تجزيه في ذلك كله في باب الإجزى، وبالله التوفيق.

.مسألة فضل هشام بن حكيم وقول عمر فيه:

ومن كتاب أوله الشجرة تطعم بطنين في السنة:
في فضل هشام بن حكيم وقول عمر فيه وحدثني مالك عن هشام بن حكيم بن حزام ومثل ما حدثني به أولا، قال: كان عمر بن الخطاب إذا سئل الأمر الذي لا ينبغي يقول أما ما بقيت أنا وهشام فلا يكون ذلك، وقال هشام لبعض أمراء الشام ورأى نبطا قد أقيموا في الشمس لخراجهم فقال لهم: أشهد أني سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إن الله ليعذب في الآخرة الذين يعذبون الناس في الدنيا»، وكان هشام رجلا قد تبتل وترك نكاح النساء، وكان في حاله شبيها بالسياحة.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا الإخبار بين لا وجه للقول فيه وكفى منه قول الله عز وجل: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح: 29] الآية فوصفهم الله في التوراة لموسى بن عمران بما وصفهم به من السيماء التي في وجوههم من السجود، ووصفهم في الإنجيل لعيسى بأنهم كزرع أخرج شطأه أي فراخه يقال منه أشطأ الزرع إذا أفرخ يشطي فهو أشطأ وقرأ ابن كثير شطأه بفتح الطاء، وهما لغتان، وإنما مثلهم عز وجل بالزرع المشطأ لأنهم أبتداوا في الدخول في الإسلام وهم عدد قليلون ثم جعلوا يتزايدون ويدخل فيه الجماعة بعدهم ثم الجماعة بعد الجماعة حتى كثر عددهم كما يحدث في أصل الزرع الفرخ منه ثم الفرخ بعده حتى يكثر وينمي وقوله: فآزره يقول فقواه أي قوى الزرع شطئه، ويقرأ فأزره بالقصر وهو في القراءتين جميعا من المؤازرة وهي المعاقدة، فاستغلظ يقول فغلظ الزرع، فاستوى على سوقه، والسوق جمع ساق، وساق الزرع والشجر حامله، وقوله: {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح: 29] معناه يعجب زراع هذا الزرع لتمامه وحسن نباته، وكذلك محمد وأصحابه ابتدأ أمرهم بالضعف ثم قوي واشتد، فعل الله ذلك بأصحاب محمد ليغيظ بهم الكفار، وبالله تعالى التوفيق.

.مسألة حمل العلم بالإجازة:

في حمل العلم بالإجازة وسئل مالك عن الرجل يقول له العالم هذا كتابي فاحمله عني وحدث به.
قال: لا أرى هذا يجوز ولا يعجبني، ولقد كان ناس يفعلون ذلك وإنما يريد هؤلاء كثرة الحمل بالأمانة اليسيرة.
قال محمد بن رشد: معناه: هذا مكروه لا يعجبني؛ لأن ما يجوز لا يصح أن يقال فيه لا يعجبني، وقد مضى الكلام على هذا مستوفى في رسم حلف قبل هذا.

.مسألة العمل مقدم على خبر الواحد:

في أن العمل مقدم على خبر الواحد وحدثني أن محمد بن أبي بكر بن عمر بن حزام كان قاضيا وكان أخوه عبد الله بن أبي بكر كثير الأحاديث، وكان رجل صدق، فكان إذا قضى محمد بالقضية قد جاء فيها الحديث مخالفا للقضاء يقول له أخوه: لم يأت في هذا حديث كذا وكذا، قال: بلى، قال: فما لك لا تقضي؟ قال: فأين الناس عنه؟ يريد بذلك أن العمل أثبت من الأحاديث.
قال محمد بن رشد: هذا معلوم عنده من مذهب مالك أن العمل أقوى عنده من خبر الواحد؛ لأن العمل المتصل بالمدينة لا يكون إلا عن توقيف فهو يجري عنده مجرى ما نقل نقل التواتر من الأخبار فيقدم على خبر الواحد وعلى القياس، والقياس أيضا مقدم على خبر الواحد؛ لأن خبر الواحد يجوز عليه النسخ والغلط والسهو والكذب والتخصيص ولا يجوز من الفساد على القياس إلا وجه واحد وهو: هل الأصل معلول بهذه العلة أم لا؟ وما جاز عليه أوجه كثيرة مما تبطل الحجة به أضعف مما لم يجز عليه إلا وجه واحد، وكذلك إجماع أهل المدينة عنده من جهة حجة تجري مجرى نقل التواتر؛ لأنهم إذا أجمعوا على أمر من الأمور فلا يخلو من أن يكونوا أخذوه توقيفا أو رآهم النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ فأقرهم ولم يتعرض للنهي عنه ولا أنكره، وأي ذلك كان فقد حصل النقل له من جميعهم والتواطؤ عليه من كافتهم، فوجب أن يقدم على غيره ولاسيما إذا كان الأمر مما لا ينفك منه أهل عصر والحاجة إليه عامة كالأذان والإقامة والصلاة على الجنائز وترك أخذ الزكوات من الخضراوات وما أشبه ذلك كثير.
ولما كانت المدينة معدن العلم ومهبط التنزيل وعنها خرج العلماء، والكافة من العلماء بها مقيمون، والعمل جار منهم على ما استقر من أركان الشريعة وجب أن يكون إجماعهم على الحادثة يحج من سواهم ممن رحل عنهم فخالفهم لجواز أن يكون قد نسي أو شبه له، كما روي أن ابن مسعود أفتى في الكوفة بتزويج الأم قبل أن يدخل بها ثم قدم المدينة فأخبروه أن الأم مطلقة وأن العمل بخلاف ما أفتى، فرجع إلى الكوفة فأمر الرجل أن يفارق امرأته، ولو حصل إجماعهم من طريق القياس لوجب أن يقدم على قياس غيرهم؛ لأنهم وإن شاركوا أهل الأمصار في مقامات العلم فقد زادوا عليهم بمشاهدة الوحي وترتيب الشريعة ووضع الأمور مواضعها والعلم بناسخ القرآن من منسوخه واستقر عليه آخر أمر النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ لأن القياسين إذا تعارضا وجب أن يقدم أرجحهما على الآخر ويرجح قياس أهل المدينة أيضا بقول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها».

.مسألة الدخول على المعذبين:

في النهي عن الدخول على المعذبين إلا للاعتبار والبكاء وحدثني عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا تدخلوا على هؤلاء القوم المعذبين إلا أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم».
قال محمد بن رشد: هؤلاء القوم المعذبون هم ثمود قوم صالح أصحاب الحجر الذين كذبوه وعقروا الناقة التي أخرجها الله من- الصخرة آية إذ قال له قومه: {إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} [الشعراء: 153] {مَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشعراء: 154]، قالوا له على ما في التفسير: إن كنت صادقا فأخرج لنا من هذه الصخرة ناقة، فتصدعت الصخرة فخرجت منها ناقة عشراء فنتجت فصيلا فقال لهم: {هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء: 155] {وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ} [الشعراء: 156] أي بعقر {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء: 156] {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ} [الشعراء: 157] {فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ} [الشعراء: 158] وقال عز وجل: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا} [الشمس: 11] أي بطغيانها {إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا} [الشمس: 12] {فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} [الشمس: 13] {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ} [الشمس: 14] أي أهلكهم {بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا} [الشمس: 14] أي بالعقوبة {وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} [الشمس: 15] قيل معناه فلم يخف الذي عقر الناقة العقبى من الله في ذلك، وقيل معناه فلا يخاف الله أن يتبع بذلك مثل قوله: {ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} [الإسراء: 69] ولما مر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحجر ثمود في غزوة تبوك أمر أصحابه ألا يتوضئوا من بئر ثمود ولا يعجنوا خبزا بمائها ولا يستعملوا شيئا منها، فقيل له: إن قوما عجنوا خبزا من ذلك الماء فأمر بالعجين فطرح للإبل علفا وأمرهم أن يستعملوا ماء بئر الناقة في كل ما يحتاجون إليه، أمر أصحابه عَلَيْهِ السَّلَامُ بأن لا يدخلوا بيوت ثمود وقال: لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل ما أصابهم ونهاهم أن يخرج أحدهم منفردا فخرج رجلان من بني ساعدة كل واحد منهما منفرد عن صاحبه، أحدهما يريد الغائط فخنق أحدهما فأخبر النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ بذلك فدعا له فشفي، والآخر خرج في طلب بعير له فأخذته الريح فرمته في جبل طي فردته طي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالله تعالى التوفيق.

.مسألة مفاتح الغيب:

في مفاتح الغيب وحدثني عن مالك عن ابن دينار عن ابن عمر قال: «مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله، علم الساعة ولا يدري أحد متى يأتي المطر، ولا يدري أحد ما في الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غد إلا الله ولا تدري نفس بأي أرض تموت».
قال محمد بن رشد: قد روي حديث ابن عمر هذا مرفوعا إلى النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ قال. قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خمس لا يعلمهن إلا الله، وتلا قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34] إلى آخر السورة».
ويريد بمفاتح الغيب قول الله عز وجل: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ} [الأنعام: 59] وليس في قوله خمس لا يعلمهن إلا الله دليل على أنه يعلم سواها من المغيبات من عداه، بل لا يعلم أحد شيئا من الغيب إلا الله، قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} [الجن: 26] {إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 27] فعم من جميع الغيوب بقوله: الغيب؛ لأن الألف واللام إذا دخلت على النكرة اقتضت استغراق الجنس، قال عز وجل: {وَالْعَصْرِ} [العصر: 1] {إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 2] فكأن معناه: إن الإنسان لفي خسر، بدليل استثناء الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم، وإذا اعتبرت هذه الخمس وجدتها مستغرقة لجميع الغيوب؛ لأن قوله عز وجل: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان: 34] معناه أنه يقتضي أنه لا تعلم نفس ما يكون في غد من الأشياء، وإنما ذكرنا الكسب دون ما سواه من الأشياء؛ لأنه جل ما يحرص الناس على معرفته من الأشياء، وقد «روي أنه جاء رجل من البادية فقال: إن امرأتي حبلى فأخبرني ماذا تلد؟ وبلادي مجدبة فأخبرني متى ينزل المطر؟ وقد علمت متى ولدت فأخبرني متى أموت؟ فأنزل الله عز وجل هذه الآية» وبالله التوفيق.

.مسألة رفع الأمانة وفضل العلم:

في رفع الأمانة وفضل العلم وحدثني عن ابن القاسم عن مالك عن يحيى بن سعيد أنه بلغه أن أول ما يرفع من الناس الأمانة وآخر ما يبقى فيهم الصلاة، وحدثني أنه بلغه أن ابن مسعود كان يقول: إذا لم يعلم أحدكم الفرائض وسنة الحج والطلاق فما فضله على أهل البادية؟
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا كله بين؛ لأن أهل البادية أهل جمالة، فإنما فضلهم أهل الحاضرة بالمعرفة بأمور الدين، قال عز وجل: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] وقال: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9].

.مسألة تصديق الرسل واليقين بقولهم:

في تصديق الرسل واليقين بقولهم وحدثني عن ابن القاسم، عن مالك، أنه بلغه أنه خرج مع موسى رجلان من أصحابه إلى البحر، فلما إليه قالا له: ماذا أمرك؟ قال. أمرني أن أضرب البحر بعصاي فقال له: افعل ما أمرك به ربك. فلن نخلفك، ثم ابتدرا البحر فألقيا أنفسهما فيه تصديقا له، قال مالك في تفسيره: فما زال البحر كذلك حتى دخل فرعون ومن معه، ثم رجع إلى ما كان.
قال محمد بن رشد: في كتاب الله بيان هذا، وتفسيره قال عز وجل: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} [الشعراء: 52] فخرج بهم ليلا على ما روى: {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} [الشعراء: 53] {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} [الشعراء: 54] يعني هم قليلون في كثيرنا، وكان أصحاب موسى ستمائة ألف، وقيل إنه اتبعهم فرعون على ألف ألف حصان ومائتي ألف حصان، وقيل مبلغ جنوده كان أربعين ألف ألف {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} [الشعراء: 60] كما قال إلى حين أشرقت الشمس: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61] {قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] يريد الطريق، قال قتادة: ذكر لنا أن مؤمنا من آل فرعون كان بين يدي نبي الله موسى يومئذ يسير ويقول: أين أمرت يا رسول الله، فيقول له موسى: أمامك، فيقول له المؤمن: وهل أمامي إلا البحر، والله ما كذبت ولا كذبت، ثم يسير ساعة ثم يلتفت، فيقول: أين أمرك يا نبي الله؟ فيقول: أمامك، فيقول: وهل أمامي إلا البحر؟ والله ما كذبت ولا كذبت، ثم يسير ساعة، ثم يلتفت فيقول مثل ذلك، حتى دخلوا البحر، فلما انتهوا إلى البحر أوحى الله إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر، جاءه جبريل على فرس وأمره أن يضرب بعصاه البحر، فضربه موسى بعصاه {فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء: 63]، أي كالجبل العظيم، صار اثني عشر طريقا لكل سبط طريق، وصار ما بين كل طريق منه مثل القناطير ينظر بعضهم إلى بعض، واتبعهم فرعون.
قال قتادة: ذكر لنا أنه لما خرج آخر أصحاب موسى دخل آخر أصحاب فرعون شطط البحر فغرقهم، قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} [الشعراء: 67] أي لعبرة لمن اعتبر وحذر أن ينزل به ما نزل بهم، فأخرج الله آل فرعون كما قال: {مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الشعراء: 57] {وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} [الشعراء: 58] أي كريم في الدنيا، وقيل أي منزل حسن في الدنيا، قال: {وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 59] رجعوا إلى مصر بعدما أهلك الله فرعون وقومه.

.مسألة الاستمتاع بما أباحه الله من متاع الدنيا:

في جواز الاستمتاع بما أباحه الله من متاع الدنيا قال ابن القاسم: وسمعت مالكا يقول: دخل عباس البصري على ابن هرمز في بيته فرأى فيه أسرة ثلاثا عليها ثلاثة فراش ووسائد ومحابس معصفرة، فقال له يا أبا بكر ما هذا؟ فقال له ابن هرمز: ليس بهذا بأس، وليس الذي تقوله بشيء، أدركت الناس على هذا.
قال محمد بن رشد: هو كما قال ابن هرمز؛ لأن الله تعالى يقول: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ} [الأعراف: 31] إلى قوله: {خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32] أي هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا مستقرة سائغة خالصة، وروى ابن عمر عن النبي أنه قال: «إن الله يحب أن يرى نعمته على عبده»، وروى «عن أبي الأحوص عن أبيه أنه أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو قشف الهيئة، فقال له رسول الله: هل لك مال؟ قال: نعم، قال: من أي المال؟ قال: من كل من الخيل والإبل والرقيق، قال: فكل ما آتاك الله من مال فلير عليك».
وقال عمر بن الخطاب: إذا أوسع الله عليكم فأوسعوا على أنفسكم.
جمع رجل عليه ثيابه وقال إني لأحب أن أنظر إلى القارئ أبيض الثياب، والقارئ ها هنا أراد به العابد الزاهد المتقشف؛ لأن القراء عندهم العباد العلماء، ومن هذا كان يقال عندهم للخوارج قبل خروجهم القراء، لما كانوا فيه من العبادة والاجتهاد.
وما فضل عند الرجل من ماله بعد أن أدى منه الواجب عليه فيه فاستمتاعه به في الرفيع من اللباس، والطيب من الطعام، والحسن من الركوب والجيد من السكنى من غير إسراف في شيء من ذلك كله لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] أولى من ترك ذلك وإمساك ماله، إذ لا أجر فيه، وإنما يؤجر على إمساكه إذا أمسكه لخير يريد أن يفعله منه، وقد يؤجر على الاستمتاع بماله في لباس الحسن، لما جاء من أن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، وما أشبه ذلك من الآثار التي ذكرناها، فبانت صحة قول ابن هرمز وأنه الفقه.

.مسألة الاستشارة في الفتوى:

في الاستشارة في الفتوى قال مالك: وجاء رجل ابن هرمز فأرسل بعض السلاطين يستشيره في الفتوى فسأله أتراني أهلا لذلك؟ قال إن كنت عند الناس كذلك، ورأوك أهلا لذلك فباشر.
قال محمد بن رشد: زاد في هذه الحكاية في كتاب الأقضية أنه قال له: إن رأيت نفسك أهلا لذلك ورآك الناس أهلا لذلك فافعل، وهي زيادة صحيحة لأنه هو أعرف بنفسه، فإذا لم ير نفسه أهلا لذلك فلا ينبغي له أن يفعل، وإن رآه الناس أهلا لذلك، وأما إذا لم يره الناس أهلا لذلك فلا ينبغي أن يفتي وأن رأى هو نفسه أهلا لذلك؛ لأنه قد يغلط فيما يعتقده في نفسه من أنه أهل لذلك، ولا حرج عليه إن فعل إذا علم من نفسه أنه قد كملت له آلات الاجتهاد بأن يكون عالما بالقرآن يعرف ناسخه من منسوخه، ومفصله من مجمله، وخاصه من عامه، عالما بالسنة مميزا بين صحيحها وسقيمها، عالما بأقوال العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من فقهاء الأمصار، وما اتفقوا عليه، وما اختلفوا فيه من أهل النظر والاجتهاد، بصيرا بوجه القياس، عارفا بوضع الأدلة في مواضعها، ويكون عنده من علم اللسان ما يفهم به معاني الكلام، فإذا اجتمعت فيه هذه الخصال مع العدالة والخير والدين صح استفتاؤه فيما ينزل من الأحكام وجاز للعاصي تقليده فيها.

.مسألة طلب العلم وتقوى الله:

في طلب العلم وتقوى الله قال مالك: وكان ابن هرمز يقول إن سأله رجل عن طلب العلم، إن رأيت أنك أهل لذلك فاطلبه وكان يقول: اتق الله بني آدم يحبك الناس وإن كرهوا.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا عندي أنه كان إذا سأله رجل عن طلب العلم أواجب هو عليه أم لا؟ يجيبه بما ذكر من وجوب الأمر في رد ذلك عليه إلى ما يعلم من نفسه، فإن كان من أهل الذكاء والفهم ما ترجى به إمامته تعين عليه من العلم ما يحتاج في خاصته من وضوئه وصلاته وصيامه وزكاته إن كان من أهل الزكاة، وما يحل عليه ويحرم من المحرمات، وما يجوز عليه مما لا يجور في البيع إن كان من أهل التجارات، وبالله التوفيق.
وإنما قال: من اتقى الله يحبه الناس وإن كرهوا؛ لأن من اتقى الله يحبه الله ومن أحبه الله أحبه أهل السماء ووضع له القبول في الأرض، على ما جاء في الحديث من رواية أبي هريرة، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إذا أحب الله العبد قال لجبريل: قد أحببت فلانا، فيحبه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله قد أحب فلانا فأحبوه، ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض الله العبد، قال مالك: لا أحسبه قال في البغض إلا مثل ذلك».

.مسألة صدقة الماشية:

في صدقة الماشية وحدثنى عن مالك، عن ربيعة، أنه ذهب معه إلى عبد الله بن واقد بن عمر وكان فاضلا واحدا، يعجب لفضله، فسأله عن كتاب عمر بن الخطاب إليه في الصدقة فأخرجه إليه.
قال محمد بن رشد: هذا هو سند مالك في كتاب عمر بن الخطاب في الصدقات الذي ذكره في موطئه أنه قرأه ولم يسنده، قال: فوجدت فيه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هذا كتاب الصدقة في أربع وعشرين من الإبل، فدونها الغنم، في كل خمس شاة، الكتاب إلى آخره بطوله هو كتاب صحيح مشهور عند أهل المدينة، أصله من النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ، روي عن ابن شهاب، عن سالم، عن ابن عمر، «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ كتب كتاب الصدقة فلم يخرجه إلى عماله حتى قبض، وعمل به أبو بكر حتى قبض، ثم عمر حتى قبض، فكان فيه:
في أربع وعشرين من الإبل فدونها الغنم، في كل خمس ذود شاة»
وذكر معنى ما ذكره مالك في موطئه في كتاب ابن عمر سواء، وروي عن ابن شهاب أيضا قال: أخرج إلي سالم وعبد الله ابنا عبد الله بن عمر نسخة كتاب رسول الله عَلَيْهِ السَّلَامُ في الصدقة، قال ابن شهاب أقرأنيها سالم فوعيتها على وجهها، وهي التي انتسخ عمر بن عبد العزيز وأمر عماله بالعمل بها، ولم يزل خلفاؤه يعملون بها، قال: وهذا تفسيرها: لا يؤخذ في شيء من الإبل صدقة حتى يبلغ خمس ذود، فإذا بلغت خمسا ففيها شاة، ثم ذكر معنى ما ذكر مالك عن عمر في كتابه، ثم قال: فإذا كانت إحدى وعشرين ففيها ثلاث بنات لبون حتى تبلغ ثلاثين ومائة، فإذا بلغت ثلاثين ومائة ففيها حقة وبنتا لبون، وليس بين أهل العلم اختلاف في زكاة الإبل إلا في هذا الموضع، وهو إذا زادت الإبل على عشرين ومائة واحدا، فابن شهاب يقول فيها ثلاث بنات لبون على ما في حديثه، ومالك يرى الساعي مخيرا بين أن يأخذ حقتين أو ثلاث بنات لبون، والمغيرة وابن الماجشون يقولان ليس فيهما إلا حقتين حتى تبلغ ثلاثين ومائة فيكون حقة وابنتا لبون، وروى ذلك أشهب عن مالك، وبالله التوفيق.

.مسألة كيد الشيطان:

في كيد الشيطان قال مالك: إنه ليقال إن الشيطان إذا لم يجبه العبد إلى المعاصي جاءه من قبل المقنط والإياس منه وتعظيم الشيء عليه.
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا المعنى بغير هذا اللفظ في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الوضوء والجماعة من سماع أشهب منه، وليس في ذلك معنى يشكل فيحتاج إلى بيانه؛ لأنه من فعل الشيطان ووسوسته التي أقدره الله عليها ومكنه منها ابتلاء لعباده يجازي الحسن بإحسانه ويعاقب العاصي بإساءته، فهو يلبس على الناس بها ويفسد عليهم طاعتهم بما يلقي في نفوسهم من التقصير فيها، فالذي يؤمن به من اعتراه شيء منها أن يضرب عنقه ولا يلتفت إليه، فإن ذلك يقطعه عنه بفضل الله ورحمته، وبالله تعالى التوفيق.

.مسألة التورع من أخذ العطاء ومداراة الإمام:

في التورع من أخذ العطاء ومداراة الإمام وحدثني أنه لما قدم الوليد بن عبد الملك سأل عمر بن عبد العزيز أن يدله على رجل صالح يعطيه مالا، فدله على بشر ابن سعيد، فأرسل إليه بألف درهم أو خمسمائة درهم وحلة، فأبى أن يقبل منه، فدخل عليه عمر بن عبد العزيز وجده مغضبا، فقال: دللتني على حروري، فقال يا أمير المؤمنين: بل هو رجل متغن، وأنت تحب من هو أحوج منه تعطيه، فتركه الوليد وأعطى غيره.
قال محمد بن رشد: إنما رد بشر عطيته من أجل أنه لم يستجز أخذ جائزته، والله أعلم، وفهم ذلك منه الوليد، ولذلك غضب، فاستلطفه عمر بن عبد العزيز واعتذر إليه.
وقد اختلف في قبول جوائز الخلفاء، فروي عن مالك أنه لا بأس بذلك إذا كان المجبى حلالا، ومن أهل العلم من كرهها وإن كان المجبى ممن يعطاه على نفسه فله أجر ذلك.
وأما إن كان المجبى يشوبه حلال وحرام فالأكثر يكرهونها، ومنهم من يجيزها، وأما إن كان المجبى حراما فمنهم من يحرمها ومنهم من يكرهها ومنهم من يجيزها، وهم الأقل.
ومن أعطى من المجبى الحرام أو المجبى الذي يشوبه الحرام والحلال مما فيه من الحرام فهو كمن أعطى من المجبى الحرام، ومن أعطى مما فيه من الحلال، فهو كمن أعطى من المجبى الحلال، وإن كان الغالب على المجبى الحرام فله حكم المجبى الحرام، ومن لم يأخذ من المجبى الحلال وإن كان يعدل في القسم فهو أفضل، لقول النبي عليه السلام: «إن خيرا لأحدكم ألا يأخذ من أحد شيئا قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا» لأن من ترك حقه فيه ولم يأخذه فقد آثر به غيره ممن يعطاه على نفسه، فله أجر ذلك.

.مسألة ما جاء في وادي العقيق:

وقال مالك: بلغني «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان نائما بالعقيق، وأن رجلا حرك رجله بشيء، فقال له: لقد أيقظتني وإني أراني بواد مبارك».
قال محمد بن رشد: وادي العقيق هو بذي الحليفة، عرس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ فيه، فقيل له: إنك ببطحاء مبارك، روى موسى بن عقبة، عن سالم بن عبد الله، «عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ أنه ريء وهو في معرس بذي الحليفة ببطن الوادي، قيل له إنك ببطحاء مباركة» قال، وقد أناخ بنا سالم يتوخى المناخ الذي كان عبد الله ينيخ فيه يتحرى معرس رسول الله، وهو أسفل من المسجد الذي ببطن الوادي، بينه وبين الطريق وسط من ذلك، وقال عمر بن الخطاب: «سمعت النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ يقول بوادي العقيق: أتاني الليلة آت من ربي عز وجل فقال: صل في هذا الوادي المبارك» وقال: عمرة في حجة، والموضع المبارك هو الذي تزكو فيه الأعمال، وينال فيه الأجر الكثير من الله عز وجل، قال عز وجل:
{حم} [الأحقاف: 1] {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ- إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان: 2- 3] وهي ليلة القدر التي قال عز وجل فيها إنها: {خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3] أي ثواب العمل فيها أكثر من ثواب العمل في ألف شهر.